الذكاء الاصطناعي وتعليم الآلة في ميدان الترجمة
برامج الكات تولز نموذجًا‏‏

مقدمة

تعود فكرة الترجمة بمفهوم نقل الأفكار من لغةٍ لأخرى إلى أقدم العصور، وتطورت تاريخيًا حتى أصبحت في وقتنا الحاضر من المهن المهمة والحساسة في العالم. ومع التطور السريع الذي تشهده التكنولوجيا، بدأت أدوات المترجم في التطور بدورها، وتسارع هذا التطور في السنوات الأخيرة، فجاءت القفزة النوعية الأولى عندما انتقل المترجم من الترجمة باستخدام القواميس الورقية، والورقة والقلم أو الآلة الكاتبة، إلى استخدام برنامج الوورد ‫(Office Word) بقدراته على التحرير والتعديل، ثم حصلت القفزة النوعية الثانية عندما دخل الإنترنت إلى البيوت، فتطورت قدرة المترجم باتجاهين، إمكانية البحث عن معاني الكلمات من دون الحاجة إلى تخزين القواميس في مكتبته أو الانتقال إلى المكتبات العامة للبحث عن مصطلح ما، وإمكانية التواصل مع العميل بالبريد الإلكتروني، وبذلك أصبح المترجم قادرًا على العمل من أمام شاشة جهازه، من دون التحرك من مكانه.

‏لم تتوقف أدوات المترجم عن التطور، فظهرت برامج الترجمة بمساعدة الكمبيوتر (أو ما يُعرف ببرامج الكات تولز‫ ‏‏‏‏CAT Tools)‏‏،‏ وهي برامج من شأنها أن تعين المترجم على الترجمة، ووفرت الوقت والجهد، وفتحت المجالات للمزيد من الأعمال النوعية التي كانت تأخذ جهدًا كبيرًا بإمكانات الماضي. وأخيرًا جاءت القفزة النوعية الثالثة عندما دخل الذكاء الاصطناعي وتعليم الآلة هذا المجال، فساعدت الآلة المترجمين كثيرًا في القيام بمهامهم في وقت قياسي.‏

‏‏ ‏1- برامج الكات تولز والترجمة الآلية

‏‏1-1- ماذا نقصد بالترجمة الآلية؟

بدأت فكرة الترجمة الآلية بمفهومها الحالي في بداية القرن العشرين. وكما هو الحال دائمًا، عادة ما تنشأ الأفكار الحديثة لأغراض عسكرية، فكانت الفكرة بالأساس إيجاد طريقة تسمح للآلة بالترجمة، وطبعًا كان الدافعُ لذلك أمرين أساسيين، الأول: هو الترجمة السريعة لكميات النصوص والرسائل الكبيرة التي يتبادلها الأعداء (وأحيانًا الحلفاء) ويتم اعتراضها، فقد كانت ترجمة كل هذا الكم تفوق أحيانًا القدرات البشرية. أما الأمر الثاني، فهو تقليص عدد الأشخاص الذين يطّلعون على النصوص المطلوب ترجمتها لأسباب استخباراتية لها علاقة بمتطلبات السرية ومقتضياتها.‏‏

ومن ثم، كان الهدف إنتاج برنامج آلي بالكامل قادر على ترجمة النصوص تمامًا من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف. ولكي تتم هذه العملية، كان لا بد من الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتحليل اللغة وتحليل الشفرات وتحليل معدل تكرار الكلمات، وتعليم الآلة القيام بهذه المهمة التي عادة ما يقوم بها البشر. غير أن هذه العمليات قد لاقت العديد من المعوقات عندما ظهر أن تعليم اللغة للآلة قد يكون أصعب مما قد يبدو عليه الأمر. فمن جهةٍ، لكل لغة خصوصيتها ومنطق تركيبها ومصطلحاتها وطريقة فهمها والمعاني المخفية فيها، ومن جهة أخرى، ترفد كل لغة بكلماتٍ جديدةٍ كل يوم في مجالات العلوم المختلفة، فضلاً عن مجالات الحياة كلها عمومًا، ولا بد من مواكبتها وتغذية الآلة بها حتى تبقى قادرة على تحليل النص وترجمته ترجمة صحيحةً لا تختل بسبب الاختلافات والأبعاد الثقافية بين اللغات.‏‏

‏‏1‏‏-2- هل استخدام الكات تولز يُعد ترجمةً آلية؟

لا، برامج الكات تولز ليست ترجمة آلية

ظهرت فكرة برامج “الكات تولز”، أي الأدوات المساعدة على الترجمة، من فكرة الترجمة الآلية، وفيها يقوم المترجم (الإنسان، وليس الآلة) بعملية الترجمة أو التعريب أو التوطين، ويكون دور الآلة هنا مساعدته في هذه العملية، من أجل زيادة الإنتاجية، والتوحيد، والمحافظة على الاتساق. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ينضوي تحت فكرة الكات تولز مجموعة من البرامج تنقسم إلى مجموعتين، الأولى: البرامج التي تعمل من دون الحاجة للاتصال بالإنترنت (أوفلاين)، حيث يتم تثبيت البرنامج على الجهاز، والعمل من المكتب أو المنزل، ومن أهمها ترادوس وميموكيو وورد فاست، والثانية التي تحتاج إلى اتصال بالإنترنت حتى تعمل (أونلاين)، حيث يحصل المترجم على اسم مستخدم وكلمة مرور للعمل على الخادم مثل ميمسورس. ومن المفيد التنويه هنا أيضًا على أن أغلب البرامج لها إصدارات تعمل أوفلاين، وإصدارات أخرى تعمل أونلاين.‏‏

‏‏1‏‏-3- أي مجموعة برامج أفضل: التي تعمل أوفلاين أم تلك التي تعمل أونلاين؟

لكل مجموعة من البرامج التي تعمل أوفلاين أو أونلاين مزاياها وعيوبها على الشكل التالي:‏‏

المزايا:‏‏

البرامج التي تعمل أوفلاينالبرامج التي تعمل أونلاين
‏‏- إمكانية العمل في حال انقطاع الإنترنت أكثر أمنًا‏‏- إمكانية تتبع تقدم المترجم أو المراجع في عمله
‏‏- إمكانية استكمال العمل والتعديل والمراجعة
من أي حاسب مرتبط بالإنترنت
‏‏- إمكانية العمل من أماكن مختلفة على الخادم نفسه

العيوب:‏‏

البرامج التي تعمل أوفلاينالبرامج التي تعمل أونلاين
عدم إمكانية تتبع تقدم المترجم في عمله‏‏-‏
عدم إمكانية متابعة العمل على حاسب آخر إلا من خلال نقل الذواكر أو الملفات على وحدات تخزين
‏‏- عدم إمكانية العمل في حال انقطاع الإنترنت
‏‏- عدم إمكانية ضبط السرية،‏‏‏‏ ‏‏‏‏‏‏‏‏في حالة البرامج ‏‏‏‏مفتوحة المصدر ‎‏‏Open source‏‏‏‏‏‏

‏‏2- ما المبدأ الذي تقوم عليه برامج الكات تولز؟

تعتمد برامج الكات تولز على الذكاء الاصطناعي وتعليم الآلة، إذ ينشئ المترجم أداتين على البرنامج هما ذاكرة الترجمة‫ (Translation Memory) وقاعدة المصطلحات (Termbase)، ‏‏ومع كل جملة تترجم في الملف، يُضاف الأصل مع ترجمته على الذاكرة، ومع كل مصطلح يُدخله المترجم على قاعدة المصطلحات، تزداد الكلمات التي يستطيع البرنامج التعرف على معانيها وكأن المترجم يعد قاموسه الخاص، وكلما تقدم العمل في الملف، ازداد حجم الذاكرة وقاعدة المصطلحات. ومع تعدد مشروعات الترجمة وتنوعها، تتعدد وتتنوع ذواكر الترجمة وقواعد المصطلحات..

عند إدخال أي ملف جديد إلى البرنامج بغرض ترجمته، يحلل البرنامج محتويات الملف، ويقارنها بما هو مخزون في ذاكرته، ويبدأ بتقديم الاقتراحات لترجمة الجُمل الجديدة اعتمادًا على ما سبق للمترجم ترجمته من خلال البرنامج، أي أن البرنامج لا يترجم بنفسه كما يحصل في حالة الترجمة الآلية، بل يقدم مقترحات للمترجم من خلال ما أدخله هو على الذاكرة وقاعدة المصطلحات، وتعتمد دقة الترجمة التي يقترحها البرنامج على دقة ترجمات المترجم ومدخلاته السابقة.

‏‏3- ما فائدة برامج الكات تولز؟

تتلخص فوائد برامج الكات تولز بالنسبة للمترجم في مجالين: الاستفادة من الترجمات السابقة وبالتالي زيادة الإنتاجية، وتوحيد المصطلحات بسهولة، ومن ثم ضمان اتساق النص. أما بالنسبة للعميل صاحب الترجمة، فإنها يمكن أن تساعده في تحديد النصوص المتكررة، وهو ما يؤدي إلى تقليص الوقت والجهد المستغرقين في الترجمة، أي كُلفة الترجمة ككل.

‏‏3‏‏-1- زيادة الإنتاجية:‏‏

تعتمد زيادة الإنتاجية على مدى التشابه بين الملفات التي سبقت ترجمتها، وبين الملفات الجديدة، وكلما ازداد التشابه، ازدادت قدرة البرنامج على اقتراح الترجمات الصحيحة لجمل الملف الجديد، ويمكن ملاحظة ذلك على وجه الخصوص في الملفات القانونية التي تتكرر فيها الأحكام والشروط. وفي الوقت الذي يستطيع فيه البرنامج تقديم مقترحات من خلال ترجمات قد يكون قد مضى على ترجمتها بضع سنين، لا يستطيع الإنسان، مهما بلغت قوة ذاكرته، أن يتذكر كل ما سبق له ترجمته أو يتذكر الملف الذي سبق ووردت فيه هذه الجملة أو تلك، وهو ما يستطيع البرنامج القيام به. ومع التطور الهائل في الذكاء الاصطناعي وتعليم الآلة، أصبح البرنامج قادرًا على اقتراح ترجمة كلمة مختلفة في جملة شبيهة بجملة سابقة ، أي أنه يتعلم التفريق بين معاني الكلمات ومواقعها في الجمل.

‏‏3‏‏-2- اتساق النص:‏‏

تتطلب النصوص المتخصصة استخدام مصطلحات متخصصة أيضًا يتعب المترجم في تجميعها، ويرهق في محاولة استعمال المصطلحات نفسها للكلمات نفسها أينما وردت في مجموعة الملفات التي يترجمها. ومع إمكانية بناء قاعدة المصطلحات، تصبح مهمة المترجم أبسط فأبسط، إذ يدخل كل مصطلح وترجمته إلى قاعدة المصطلحات، وحيثما ورد هذا المصطلح، سواء في الملف نفسه أو في ملف يتم العمل عليه بعد 5 سنوات مثلاً، يظهر البرنامج الترجمة المختارة لهذا المصطلح حتى لو ورد في جملة مختلفة تمامًا، أي أن البرنامج يعطي الإمكانية لتخزين الجمل ككل، ولتخزين الكلمات بمفردها، وهو ما يضمن توحيد المصطلحات المستخدمة في الملفات كلها من دون عناء يُذكر.

‏‏3-3- تقليص كلفة الترجمة:‏‏

يستفيد العميل صاحب الترجمة بدوره من الكات تولز، فهذه البرامج تستطيع أن تحسب مقدار الجمل المتكررة والمتشابهة في الملف، وبالتالي، يحاسب العميل على ترجمة الجمل لمرة واحدة، فلا يدفع كلفة ترجمة الجمل نفسها أكثر من مرة في حال ورودها في النص لمرات عديدة، وبالتالي يخفض من الكلفة التي يرصدها لعملية الترجمة.

خاتمة

ما زال الذكاء الاصطناعي وتعليم الآلة في تطور مستمر، وفي كل يوم تخرج علينا استعمالات جديدة لهما، وميدان الترجمة لا ينفصل عن مجالات العلوم الأخرى، وكما رأينا، فقد دخله الذكاء الاصطناعي في صلب عمله، ووضع بين يديه القدرة على تعليم الآلة في مجال إعداد الذواكر وإعادة اقتراحها بأشكال مختلفة تختلف حسب اللغة وحسب الجملة، دون أن ننسى مواقع الترجمة على الإنترنت كخدمة جوجل للترجمة التي تزداد قوة وقدرة يومًا بعد يوم مع ازدياد المدخلات. ومن المعروف أن البقاء بات للأكثر قدرة على التكيف، وكلما كان المترجم قادرًا على الاستفادة مما يقدمه الذكاء الاصطناعي وتعليم الآلة، وتسخيره لخدمته في عمله، كلما كانت إنتاجيته أعلى، وكان أكثر قدرة على التعايش مع متغيرات العلم والسوق، وبالتالي، فلم يعد تعلم الكات تولز واستخدامها رفاهية في عمل المترجم، بل أصبحت ضرورة لا يكاد العمل يستقيم من غيرها

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *